- الصحيفة: الاقتصادية
- تاريخ النشر: 15 شوال 1436هـ
- رابط المقالة
هناك معايير كثيرة لقياس رقي الأمم. وهناك أيضا سلالم أو درجات للتطور وتقبّل مظاهر ومباهج الحضارة والمدنية الحديثة. هناك ما له علاقة بمستوى الدخل والمعيشة. هناك ما يخص التربية والتعليم والصحة ونسبة الوفيات. هناك ما يخص تطويع العلم والتكنولوجيا والصناعة والميكنة وبينها ما يتعلق بأسلوب الحكم ومشاركة الناس فيه. ولم يدر بخلدي أن “الرصيف” سيكون يوما من المعايير التي يستخدمها المختصون بشؤون المدنية والحضارة لتقرير مدى تطور وتمدن الدول والشعوب. ولم أكن سأصدق اتخاذ “الرصيف” مقياسا للتطور من قبل بعض مراكز الأبحاث والدراسات في شمال أوروبا إلا بعد ما شاهدته في زياراتي لبعض الدول ومنها بلدان خليجية. وشمال أوروبا كمصطلح له علاقة جوهرية بمفهوم فكري وفلسفي أكثر من كونه جغرافيا. شمال أوروبا بالذات يشير إلى الشعوب التي قبلت الإصلاح الديني الذي أتى به مارتن لوثر وبموجبه تم تحييد وتقييد المؤسسة الدينية في أوروبا وحبسها في أروقة الكنائس. لوثر وضع الفرد وفهمه الخاص للنصوص وعلاقته المباشرة مع صاحب النص دون واسطة أو تدخل من المؤسسة الكنسية أو رجل الدين أساسا للحضارة والحياة والفكر النير والتنوير. لن أدخل في خضم ما جلبته المؤسسة الدينية من مآسي وكوارث مهولة في أوروبا، ولكن لولا لوثر لتعرقلت الحضارة الغربية ولما كان للفرد “الإنسان” كل هذه المكانة والحصانة في المجتمعات الغربية ولا سيما التي تعيش في شمال أوروبا. هذه الدول تتبارى في الكثير من النواحي فيما بينها أولا، ومع العالم الذي حولها ثانيا. تتبارى فيما بينها في خدمة الفرد “المواطن”. ومن هذا المنطلق يكون صاحب السيارة ذات الدفع الرباعي مساويا في الحقوق لدى استخدامه الشارع مع الفرد الذي يسوق دراجة هوائية أو يريد التنقل مستخدما ساقيه. صاحب الدراجة الهوائية في دول مثل السويد والدنمارك وهولندا مثلا له من الحقوق ما لدى صاحب السيارة الفارهة. والشخص الذي يريد أن يتمشى من مكان إلى آخر له من الحقوق ما لدى صاحب أي مركبة مهما كان نوعها. ولهذا توفر الدولة كل المستلزمات التي يحتاج إليها صاحب الدراجة الهوائية للتنقل من مكان إلى آخر. وكذلك توفر كل ما يحتاج إليه المواطن الذي يريد التنقل أو الحركة مستخدما رجليه. وفي الوقت نفسه توفر المستلزمات التي يحتاج إليها أصحاب السيارات. لا بل بدأنا نلاحظ ميلا صوب تلبية متطلبات صاحب الدراجة والمواطنين الذي يجرون أو يمشون إلى أعمالهم أو من أجل صحتهم على حساب السيارات والمركبات الشخصية. اليوم إن ذهبت إلى طبيب في السويد لا تستغرب أبدا إن خرجت من العيادة بوصفة طبية خالية من الدواء ولكن فيها نصيحة تحثك على استخدام الدراجة الهوائية أو اللجوء إلى المشي إن أردت العلاج الشافي. “الحركة ثم الحركة ثم الحركة” صار الشعار الأول للمناعة والقضاء على الكثير من الأمراض. والناس تتحرك، وصارت الدراجة الهوائية وسيلة أساسية للتنقل في دول شمال أوروبا، والمشي يمارسه أغلب الناس كلما استطاعوا إليه سبيلا. وترى البلديات ومؤسسات الطرق والمواصلات منهمكة في تعبيد وتهيئة المسالك وتأسيس الإشارات المرورية للسابلة وأصحاب الدراجات. وهذه المسالك فيها علامات للذهاب والإياب وألواح فوسفورية للدلالة كما هو شأن أي شارع أو طريق دولي للمركبات. ما لاحظته في هذه الدول أن مؤسسات الأشغال والطرق بدأت وبجدية إعادة النظر في تصميم الشوارع حيث صارت تقضم من الطرق المخصصة للنقل بواسطة المركبات الخصوصية لمصلحة النقل العام، ومسالك السابلة، وأصحاب الدراجات الهوائية. واليوم بإمكانك أن تعرف مقدار المسافة التي تقطعها بالدراجة الهوائية أو مشيا على الأقدام. لهواة الجري والمشي هناك مسالك خاصة داخل المدن وفي الأرياف القريبة منها. المسالك هذه تحدد لك مسبقا المسافة التي تريد أن تقطعها من ثلاثة كيلومترات أو خمسة أو أكثر. وهذا ينطبق على مسالك الدراجات الهوائية. في آخر زيارة لي لبلد خليجي صعقت لأنه لم يكن بإمكاني أبدا استخدام الدراجة الهوائية التي هي وسيلة النقل الرئيسة لي ولعائلتي هنا في السويد. أما المشي فكان مستحيلا أيضا لأنه لم يكن هناك رصيف ولم يحترم أصحاب المركبات المارة والسابلة. حتى أماكن عبور الشارع مشيا على الأقدام بعيدة جدا عن بعضها وإن وجدت فلا يكترث أصحاب المركبات لها. أما شركات البناء والتعمير التي لا تحصى بإمكانها احتلال الرصيف إن وجد وما على المارة إلا عبور الشارع. وكلما عبرت شارعا شكرت الله لأنني نجوت سالما وكأنني أنقذت نفسي من موجة إطلاق رصاص من فوهات البنادق في ساحة المعركة.